حلمي البسيط: حياة طبيعية مستقرة

الكاتب: هايل خلف

 

كان صيف عام 2008 في دمشق أفضل فصول الصيف التي يمكن أن أتذكرها في حياتي. في ذلك الوقت، حضرتُ حفلا لفرقة الروك Gorillaz، وهي تعزف في القلعة القديمة بدمشق، واستمتعت كثيرًا بسهرات في شوارع «باب شرقي» في المدينة القديمة، وقمتُ برحلة ممتعة للغاية إلى الشاطئ رفقة الأصدقاء. في حينها، اعتقدت أنني أحظى بأفضل حياة يمكن لأي شخص أن يحلم بها، ثم جاء العام 2011.

 

في تلك السنة، قررتُ أداء خدمتي العسكرية الإلزامية. وما أن انقضت أربعة أشهر، وبينما كنت لا أزال في التدريب، انطلقت الانتفاضة السورية ضد الأسد ونظامه. اعتقدنا جميعًا أن الأمر سيستغرق شهرين، وأننا سنمضي قدمًا بعدها لنحظى بحياة أفضل ونقطف ثمار تغييرٍ يحتاجه البلد. لكن ذلك لم يحدث، وعوضًا عن ذلك، وجدت نفسي مضطرًا إلى الانشقاق عن الجيش واجتياز الحدود إلى أجزاء سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة. 

طوال أشهرٍ عديدة، عشنا تحت الحصار، وتحولت الانتفاضة إلى حربٍ طاحنة استمرت 12 عامًا، وأسفرت عن نزوح 13 مليونًا، وسُويت بالأرض مدنٌ بأكملها بما في ذلك مسقط رأسي، دير الزور، شرقي سوريا، وقتل ما يقرُب من مليون شخص والعدد آخِذٌ في ازدياد. كانت تلك هي المرة الأولى التي يُجبر فيها والداي على مغادرة منزلهما، وكانت أيضًا المرة الأولى التي اضطروا فيها إلى البدء من الصفر. كانوا بحاجة إلى مكان للإقامة، وتوجّب علينا أن نتصرف، واخترنا بيت المزرعة الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل مكثف ليكون صالحًا للعيش، لكننا فعلنا ذلك بالفعل. كوّنت أمي مجتمعًا جديدًا لنفسها، وأصدقاء جدد وكانت سعيدة.

هناك، مرِض والداي بسبب طقس الريف البارد ولم يكن بإمكانهما تحمل العيش في قرية. تصرفنا مرة أخرى، على غير هدىً،  وقررنا نقلهم إلى أنطاكيا، في تركيا، حيث كنتُ أعيش في ذلك الوقت. انتقلوا إلى هناك حاملين معهم ملابسهم وبعض المتعلقات، بما في ذلك الصور العائلية التي حملت تاريخنا، وكان شيئًا ثمينًا استعادته أمي من تحت نيران القناصة من منزلنا في دير الزور.

كانت تلك هي المرة الثانية التي يضطر فيها والداي إلى البدء من الصفر. بالفعل، كونت أمي مجتمعًا جديدًا وأصدقاء جددًا وكانت سعيدة حقًا لوجودي هناك. أنطاكيا مدينة جميلة قريبة من الساحل، وبها ثقافة طعامٍ رائعة، وشعبها مضياف ولطيف للغاية.

ثم جاء الزلزال 

استيقظت صباح الاثنين، في منزلي بالريف الفرنسي لتجهيز ابنتي للذهاب إلى المدرسة ورأيتُ حوالي 100 رسالة على مجموعة الواتساب العائلية. قرأتُ الرسائل بسرعة وأدركتُ أن زلزالًا مدمرًا قد ضرب تركيا وسوريا ليلاً بينما كان الجميع نائمين. كان أشقائي الثلاثة المتواجدين في البلدين بخير، لكنني لم أقرأ ولو كلمة من والدي. 

على مدار يومين، عشتُ الجحيم في محاولة لتحديد مكانهم أو إمكانية الوصول إلى أي شخص في المدينة. اتخذت قرارًا بالذهاب جوًا إلى هناك والبحث عنهم. وفي طريقي إلى هناك، تم العثور عليهم أحياء تحت الأنقاض. سافرتُ بالطائرة من جنيف إلى أضنة ومنها إلى أنطاكيا لرؤية المدينة التي أحببتها واعتبرتها وطنًا لبعض الوقت وهي مسوّاة بالأرض. وجدت والديّ ينامان على الرصيف مع نازحين آخرين. نظرت إلى شقتهم وأدركت على الفور أنها آخر مرة نراها فيها، وربما آخر مرة نرى فيها أنطاكيا. تمكن والداي من الحصول على مستنداتِهما وأدويتهما. ولم ينجُ شيءٌ آخر، وها قد ضاعت الصور. 

بينما كنت مستلقيًا في الشقة المؤقتة، التي استأجرتها لبضعة أيام في مرسين لمساعدة والديّ على التعافي من الصدمة، وللحصول على بعض الوقت للتوصل إلى خطة مرتجلة جديدة حول المكان الذي سيذهبون إليه بعد ذلك، وكيفية إيصالهم إلى هناك، و من أين أبدأ بدايتهم الثالثة من الصفر، فكرتُ في أشخاص آخرين في أجزاء أخرى من العالم يحظون بنوع من الحياة الطبيعية. الحياة الطبيعية هي الحياة الخالية من الأزمات الهائلة بين الحين والآخر.

أريد أن أصبح عامل بريد في سويسرا، أو مزارعًا في فرنسا حيث أعيش، أو نادلًا في شيكاغو؛ أريد حياة بلا حرب، ولا زلازل، ولا دمار، ولا حزن. أثناء قيادتي سيارتي في أنطاكيا بعد الزلزال، رأيت أشخاصًا بوجوه مهزومة؛ إذ توجّب على السوريين، الذين صنعوا حياة جديدة واستقروا بعد الحرب، البدء من الصفر مرة أخرى؛ فضلا عن وجوه الأتراك الذين فقدوا مدينتهم الحبيبة وأحبائهم. عقدتُ مقارنة بين الأزمات التي مررت بها في حياتي وأدركتُ أنه كان سيكون من الأفضل لو تمسكنا بالحرب فقط. لقد لخص الزلزال 12 سنة من الحرب في دقيقتين.

لا أزال لا أعرف الوجهة التي سأذهب إليها رفقة والدي الآن. لكنني أعلم أنني أمتلك حقيبة طوارئ وجواز سفر وبعض النقود وبطارية احتياطية جاهزة للكارثة التالية القادمة بالتأكيد في طريقها إلينا. انها مجرد مسألة وقت.

 

اترك تعليقا